التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اسرار التدريس عند الاستاذ و الدبلوماسي

 

اربعينيات القرن الماضي.. الولايات المتحدة.. أكثر من 80 كيلومتر يفصل بين مرصد يركس الفلكي وجامعة شيكاغو. مسافة أسبوعيا يقطعها الفيزيائي الفلكي الأمريكي من أصل هندي "سوبرامانيان تشاندراسخار"
خذ نفس واقرأ الاسم زين قبل تكمل 😑
نكمل.. لتدريس محاضرات في صف جديد، المفاجأة أن طلابه فقط اثنين.. طالبين.. شخصين. فُتحت الشعبة بهذا العدد ولم تُغلق؛ تمسك المعلم بحماسته وأصر أن تبقى كأنها قاعة ممتلئة.الصف الصغير وعدد قليل، لكن الناقدين اقل ما يوصف عددهم هو طابور طويل، تلك الجدران الأربع احتوت أعظم صف في التاريخ إذ شاء القدر أن نال كل طلابه نوبل في الفيزياء، بالإضافة الى الفلكي الامريكي.!

خلف الكواليس🪞🎬..

من فلكي يُدرّس.. صف صغير في شيكاغو.. الى أروقة الوزارات والسفارات وقاعة واسعة بجامعة الملك سعود. هنا في مجتمعنا.

للمرة الأولى في حياتي اتمشى بردهه الاستاذ غازي عبد الرحمن القصيبي وأحيا حياه مختلفة وبشكل ادق "حياه في الإدارة" ومضت من هذه الحياة ربعها وبقيت العديد من الأفكار في الثلاث ارباع الباقية.

الدراسة تعتبر إدارة أخرى ويتحدث فيها الأستاذ المساعد غازي القصيبي عن (التيسير والتعسير) او (التشويق والتعقيد) يرى أنّ هذه هي الصفات الرئيسة التي توضع بعين الاعتبار عند المقارنة بين كل المعلمين في العالم.

"لا يمكن للمادة أن تكون مفيدة مالم تكن مشوقة، ولا يمكن أن تكون مشوقة ما لم تكن مبسّطة، ولا يمكن أن تكون مفيدة ولا مشوّقة ومبسّطة ما لم يبذل المدرس أضعاف الجهد الذي يبذله الطالب".

( لا إهمال ولا تضخيم بل اجتهاد مُتزن).

ثلاث ساعات من التحضير لكل ساعة في الفصل؛ كيف لمدرس ان يُعد محاضرة مشوقة إذا اكتفى بقراءة كتاب واحد.! هذه هي طريقة تدريس سعادة السفير  قبل ان ينال الدكتوراة وبعدها.

فِكر الأديب والدبلوماسي السعودي واقعي ليس مجرد تنظير وقد رأيت ذلك في دراستي:

أتذكر في المرحلة الثانوية درسّني معلم لمادة القرآن الكريم لا اكاد أتذكر اسمه بعكس ملامحه التي لم تغب خصوصا لحظه اشمئزازه من شيءٍ ما، كان يفتح مقطع فيديو للشيخ "عبد الباسط عبد الصمد" وهو يقرا السورة المقررة علينا، عند انتهائه يبدأ الطلاب من اليمين بالتلاوة، لا اخفي أنه يمكن لمن يشاهد منظر الطلاب أن يقرأ تعابير القلق لكلا منا: بشأن جودة تجويده وقراءته، لم يدم القلق إلا لخمس دقائق. بعد بدايتنا في التلاوة اتضح أن كل طالب عليه قراءة آية واحده فقط .! لم تكن هناك تعليقات ولا نصائح على التجويد ولا نبرة الصوت ابدا، الكل قرأ يعني انتهت الحصة تنفيذيا ويخرج الأستاذ بعد صوت الجرس.

معلم آخر اسمه "اسامه" بنفس المرحلة لم يطلب منا فتح الكتاب ولا كتابه الملاحظات ولا البقاء جامدين نراقبه بأعيننا.. كل ما طلب هو الإنصات ولم يطلبه مباشرة، بل ترك لذاتك الاختيار. وهي بدورها تقوم متشوقة لذلك، يبدأ بالنقاش ويسأل كل طالب شارد الذهن عن حاله حتى يخفف من حده أفكار كل من شرد ذهنه. يسرد حكاية ومعها تظهر فكرة تبين درس اليوم.. يختمها بنصيحة وعبره منه إلينا أم من مصدر آخر لكن الوجهة هي لنا.

كان يشرح الدرس ويشارك قصص رسولنا الكريم وأثرها علينا، يخرج ما في جعبته برفقة المقرر ودرس اليوم.. أسلوبه كان يركز على التنفيذ لا التخطيط. الالقاء لا القراءة. الجودة لا الكمية.

ألهمني اقتباس قرأته عن تميز الإنسان الذكي عاطفيا في التعامل مع الاخرين انه" تمكن في بناء الجسر قبل طلب العبور"

تحت ضوء ابجوره لبنى الخميس

أتذكر في الربع الأخير من العام الثالث قام أستاذ اسامه بالذهاب لفصول طلاب ثالث ثانوي؛ يستفسر عن درجة اختبار القدرات ويلاحظ الطالب المجتهد ذو العمل الدؤوب. ويقوم بتوجيهه وتقوية نقاط الضعف لدية؛ على سبيل المثال: نصحني ذات مرها بالقراءة عن العرب قديما وعن زمن الرسول والصحابة، قراءة القران والشعر لتقوية الجانب اللفظي الذي يخص الامتحان.

"التدريس فن، لا علاقة له بكمية العلم التي يختزنها المدرس.. وأن الطالب يستفيد إن كان المعلم غني بمهارات التدريس ويوليها اهتمامه، اكثر بكثير لو كان المدرس يركز على البحث و المادة المقدمة.

***

التعليم نقطة جوهرية في حياه المرء وهي نعمة إن وجدت، لذا لابد أن تكون هناك درجة من الوعي حول ما يجب على أن أكون وما أود أن أكون؛ ليست هناك قابلية للاختيار المحبب في كل مره.

لا تتشتت بآراء للأخرين، الان ركز على ما يجذبك ويلهمك. أكثر التجارب المبهجة والمنيرة تولد في العقل، وإذا كنت متحمس بشأن موضوع ما ولا يوجد أحد يشعر بالحماسة غيرك، كل ما عليك فعله هو التركيز في البدء وحسب وهنا تكون قد رأيت الملامح الأولى للأمر.

الغِنى في ذلك هو أنك انت المهتم، ليس الاخرين..

***

الإنسان في رُكن 🧠🌱..

أتنقّل الى ردهة اخرى. ويشاركني عبرة اختزلها سعادة وزير الصناعة السابق غازي القصيبي وهي:

" لا يأخذ الناس، بجدية كافية، أي خدمة تقدم لهم بلا مقابل أو بسعر منخفض". 

من هنا ومن خلال تجارب شتى التمست واقعية هذه العبرة؛ إذ رأيت سوبرامانيان و تخيلت السرور في ملامح استاذ كلية التجارة غازي القصيبي عندما قابل المفكر السعودي البارز تركي الحمد، متذكرا أنه كان أحد طلبته.. بالتأكيد أن الروائي تركي الحمد لم ينسى استاذه والسبب يعود انه هو الاخير كان شغوفا بالتدريس.. متأهب للدرس القادم عند تحضيره.. مفعم بالحيوية عند الشرح. 

بين الطلاب إذا انتبهوا أن المجتهد حسن الخلق متوفر دائما للمساعده تغلغلت الافعال الردئية في التعامل بينهم وبين هذا الطالب؛ بكل بساطه يجيبك احدهم : هو مبسوط ويبي كذا فاضي خليه يساعدنا.

لنترك التعليم.. في واقعنا دائما تجد من ينتهز عرض النادي الرياضي ويبدأ بالتسجيل بحماس، لكن سرعان من تنتبه لخطواته عائده لمنطقة راحته؛ المبلغ الذي دُفع كان بسيط ورمزي جدا، وقس على ذلك الكثير.

في تدوينة سابقة بعنوان "فلسفة الاعتدال" شاركت قارئها فلسفة مغروسة في المجتمع السويدي اسمها  Lagom، هنا ايضا تكمن الفلسفة في العطاء و الاستجابة عند السؤال.

لذا كُن متقبلاً للعطاء لا متفاخرا فيه بل انهيه بالشكر والحمد.. لا مَنّان ولا منزعجا بل مُعطي بسخاء.

لا قريبا دائما ولا بعيد المنال بل متوفر عند المقدرة.. بلا خجل عند العجز ولا بخل عند القدرة بل شارك بإتزان و اعتدال.

لذلك مهما كانت درجة الود التي تكِنُها لغيرك ثق تماما أن العطاء الزائد  عمّا يُطلَب سينقلب ضدك.

قصة سوبرامانيان تشاندراسخار

تعليقات